فصل من كتاب “نص العهد الجديد”
تأليف كورت ألاند وباربارا ألاند
ترجمة دكتور مختار عبد الفتاح
1. مجموعة أسفار العهد الجديد
كان كل سفر من السبعة والعشرين الخاصة بالعهد الجديد في بدايته وحدة أدبية منفصلة. كُتب كل إنجيل منفصلاً عن الآخر، كما الأمر في أعمال الرسل، وكل رسالة من رسائل بولس، ورسائل العهد الجديد الأخرى، ورؤيا يوحنا. بالطبع فإن مؤلفي الأناجيل كانوا يعتمدون على أسلاف لهم ويعرفونهم، لكن كان هناك بكل وضوح فترة زمنية معتبرة قد مضت قبل أن يستعمل أي مجتمع أكثر من إنجيل واحد. لم نسمع قبل سنة 180م مصطلح (التتراإيوانجليون τετραευαγγέλιον) = الأناجيل الأربعة، أي مجموعة من أربعة أناجيل تقدم قصة البشارة بموثوقية متساوية، معروفة عالمياً ومعترف بها، مثلاً: سمعناها في عبارات أب الكنيسة إيريناوس (أسقف ليون سنة 180م تقريباً)، والقائمة المسماة بال “القانون الموراتوري Muratorian Canon” (قائمة بالأسفار القانونية ظهرت في روما تقريباً سنة 190م، سميت باسم مكتشفها ليدوفيكو أنطونيو موراتوري Lodovico Antonio Muratori). في ذلك الوقت كان ممكناً بوضوح إنتاج كتب من البردي تحوي نص كل الأناجيل الأربعة (أكثر من ثلاثمائة صفحة مطبوعة في نستل!). البردية 45 كتبت في بداية القرن الثالث، في أصلها احتوت على 55 صحيفة أو ورقة مزدوجة (110ورقة أو 220 صفحة)، واحتوت على الأناجيل، وأيضاً على سفر أعمال الرسل.
أول كتابات جُمعت ربما كانت رسائل بولس. كانت كل كنيسة من الكنائس لديها رسالة أو أكثر من الرسول لم تكن لتحفظها بعناية فقط، وتقرأ بها عند الاجتماع للعبادة، بل وتتبادل نسخا من رسائلها مع الكنائس المجاورة. هذا هو التفسير الوحيد الممكن للاحتفاظ برسالة غلاطية، لأن الكنيسة (الكنائس) التي ذكرت فيها لم تعد باقية. في كولوسي 4: 16 نقرأ “وَمَتَى قُرِئَتْ عِنْدَكُمْ هذِهِ الرِّسَالَةُ فَاجْعَلُوهَا تُقْرَأُ أيضاً فِي كَنِيسَةِ الّلاَوُدِكِيِّينَ، وَالَّتِي مِنْ لاَوُدِكِيَّةَ تَقْرَأُونَهَا أَنْتُمْ أيضاً.” سواء كتبت بواسطة بولس أو بعد موته بقليل فإنها تعكس على كل حال ما كان يحدث في الحقبة البولسية (أو ما بعدها).
عندما أرسلت كنيسة روما رسالة رسمية إلى كنيسة كورنثوس حوالي سنة 95م (عرفت باسم 1Clement رسالة إكليمندس الأولى، أقدم وثيقة مسيحية خارج العهد الجديد)،
لم تشر فقط لرسالة بولس إلى رومية (كما هو متوقع)، لكن كانت أيضاً تقتبس بوضوح من كورنثوس الأولى والعبرانيين، وهذا يعكس وجود مجموعة من رسائل بولس في روما في ذلك الوقت رغم أن حجمها لا يمكن تحديده بدقة بسبب أن الاقتباسات والتلميحات لرسائل بولس الأخرى لا يمكن التعرف عليها بشكل قطعي. وعند ماركيون تقريباً سنة 140م نجد اقتباسات محددة من غلاطية ورسالتي كورنثوس ورومية ورسالتي تسالونيكي وأفسس (والتي عرفها باسم الرسالة إلى اللاودوكيين)، وكولوسي وفيلبي وفيلمون – هذا بالتأكيد كان ترتيب رسائل بولس في المخطوطات التي استعملها ماركيون. القانون الموراتوري يضيف لها الرسائل الرعوية تقريبا سنة 190م. رسالة العبرانيين لا تظهر في أي منهما (رفضها ماركيون بسبب ارتباطها بالعهد القديم، ورفضها القانون الموراتوري بسبب رفضها للتوبة الثانية، راجع عبرانيين 6: 4 وما يليه).
أقدم مخطوط لرسائل بولس هي البردية 45، ترجع تقريباً لسنة 200م، تتضمنها (الكنيسة الأولى نسبت العبرانيين لبولس)، للأسف النص يتوقف فجأة في تسالونيكي الأولى، لذلك لا ندري هل تسالونيكي الثانية وفيلمون والرسائل الرعوية كانت موجودة أصلاً أم لا. بخلاف الأناجيل فإن رسائل بولس حفظت منذ البداية كمجموعة. في البداية كانت هناك تجمعات صغيرة في أفراد الكنائس، فنمت بعملية التبادل وأخيراً أضيفت الرسائل الرعوية بحلول منتصف القرن الثاني، ومجموعة الرسائل البولسية الأربعة عشر اعتبرت كاملة. منذ ذلك الوقت منحت قانونية متزايدة (باستثناء العبرانيين التي رفضت الكنائس الغربية الاعتراف بها حتى القرن الرابع الميلادي بسبب رفضها للتوبة الثانية- تجديد التوبة).
-
القانون، وتاريخ الكنيسة، وتاريخ النص
من المفهوم بشكل عام أن سفري أعمال الرسل والرؤيا قد تم تداولها أولاً على أنهما كتابات مستقلة. لكن هذا ينطبق أيضاً على جميع الكتابات المعروفة باسم الرسائل الكاثوليكية. على سبيل المثال، كُتبت رسالة بطرس الأولى وبطرس الثانية من قبل مؤلفَين مختلفين لمناسبتين مختلفتين تماماً ولم يتم جمعهما إلا من خلال تقليد كنسي متأخر كثيراً. تُظهر نظرة سريعة على تاريخ القانون أنه لم يتم التعرف على الرسائل الكاثوليكية السبعة كمجموعة واحدة إلا في القرن الرابع. في القرن الثالث لم يتم التعرف إلا على بطرس الأولى ويوحنا الأولى بشكل عام، وكانت يعقوب ويوحنا الثانية والثالثة وبطرس الثانية ويهوذا تكافح من أجل القبول ولكن بنسب نجاح غير متساوية. لم يزال هذا الوضع الذي عكسه يوسابيوس القيصري مستمراً حتى بداية القرن الرابع. والدليل واضح تماماً على أن سفر الرؤيا في الكنائس الشرقية في ذلك الوقت قد رُفض على نطاق واسع.
هذه الأفكار المكتسبة من تاريخ القانونية هي أفكار أساسية وذات أهمية حيوية لتاريخ النص – لقد أهمل علم النقد النصي للعهد الجديد بشكل تقليدي نتائج تاريخ الكنيسة المبكر، ولكن هذا كان سبباً في إلحاق الضرر به، لأن انتقال العهد الجديد النص هو بالتأكيد جزء لا يتجزأ من ذلك التاريخ الكنسي. إذا كان التاريخ النصي لسفر الرؤيا، على سبيل المثال، مستقلاً للغاية، وإذا كان تقييم نصه يجب أن يُبنى على
معايير مختلفة كهذه (وعلى المخطوطات)، فهذه نتيجة طبيعية لتاريخه المتنازع عليه، أو على الأقل تاريخه غير المقبول بشكل رسمي، في الكنائس الشرقية. لو تعرضت الرسائل الكاثوليكية لهذا الاختلاف في قبولها لهذا الحد في القرن الرابع وما بعده (أجزاء معتبرة من الكنائس الناطقة بالسريانية لم تقبل مطلقاً الرسائل الأقصر باعتبارها قانونية)، فإنه من الممكن بسهولة أن نفهم لمَ أظهرت أقسام مختلفة مما سمي لاحقاً الرسالات الرسولية Apostolos (الأعمال + الرسائل الكاثوليكية) شخصية نصية متنوعة. الوضع فيما يتعلق برسالة يهوذا يعتبر مطابقا لذلك: حتى في المخطوطات المبكرة لنصها، البردية 72، من القرن الثالث/الرابع، فإن تقليدها النصي مربك بشكل واضح. في مخطوطة لرسالة رسولية لا تختلف شخصية النص الخاصة بسفر الأعمال فحسب عن تلك الخاصة بالرسائل الكاثوليكية، بل حتى ضمن الرسائل الكاثوليكية نفسها قد تختلف من رسالة لأخرى، وذلك بالاعتماد على المخطوطات التي نُسخت منها. من المرجح أن الأناجيل كانت تتداول بحلول القرن الثالث الميلادي ككتلة واحدة بدلاً من كونها أجساماً منفصلة، وكتلة الرسائل البولسية قبل ذلك. على الرغم من ذلك، فإن سفر أعمال الرسل، كان على الراجح مرتبطاً في البداية مع الأناجيل الأربعة (راجع البردية 45، ومجموعة مخطوطات بيزا كانتابريجينيسيس Codex Bezae Cantabrigiensis). ثم في القرن الرابع الميلادي، عندما بدأ سفر الأعمال يُجمع مع الرسائل الكاثوليكية، هذا معناه القيام بجمع مخطوطات ذات مصادر مختلفة معاً، حتى وإن كانت الرسائل الكاثوليكية تُتداول معاً كمجموعة واحدة، فلا بد أنها جُمعت سوياً من مخطوطات ذات منشأٍ مختلفٍ في الوقت الذي كُوّنت فيه المجموعة أول مرة.
عندما جُمعت المجموعات المختلفة لأول مرة ضمن مجموعة مخطوطات ضخمة واحدة، أو حينما تم تجميع العهد الجديد كاملاً للمرة الأولى، فإنه من المحتمل بشكل متساوٍ أن المخطوطات المشاركة تمثل تقاليدَ نصيةً من نوعيات متباينة. أفضل مثال لذلك هو المخطوط الفاتيكاني Codex Vaticanus رمزها (B, 03). النقاد النصيون الأوائل كانوا عاجزين عن تفسير – لماذا نوعية نصها (الفاتيكانية) في الرسائل البولسية تعتبر رديئةً جداً مقارنةً مع نصها بالنسبة للأناجيل؟ تم الافتراض بأنه في الفترة المبكرة تواجدت عدة تنقيحات لنفس النّص (راجع، فون سودن Von Soden)، أو أن العلماء في مطلع القرن الرابع الميلادي في الإسكندرية وغيرها أخذوا ما أمكنهم من المخطوطات الجيدة حسب المتاح وطبّقوا معاييرهم اللغوية الخاصة philological لجمع نص موحّد جديد (هذه وجهة نظر آبائنا، وهي لا تزال كذلك معتمدة عند عديد من علماء النقد النصي في يومنا الحالي). ما زال السؤال بلا إجابة، لماذا لم يفعل محرروا هكذا نص ممتاز في الأناجيل، نفس الأمر في رسائل بولس؟ لا بد أن هذا التناقض أخلّ بعلم النقد النصي. يبرز نفس السؤال في المخطوطة السكندرية Codex Alexandrinus (A). حيث أن نص السكندرية في الأناجيل يعتبر ضعيفاً جداً (يختلف قليلاً فقط عن نص الأغلبية Majority text). ولكن بدءاً من سفر الأعمال فإن النوعية تختلف بشكل ملحوظ: في سفر الأعمال يمكن مقارنتها مع الفاتيكانية B والسينائية ϰ، بينما في سفر الرؤيا فإنها تتفوق على ϰ و حتى البردية 47، لو أن المخطوطة كانت منتوجاً منقحاً، فكيف لتلك الاختلافات أن تفسر؟
-
نشأة أنواع النصوص (العائلات)
النقد النصي المعاصر يملك إجابةً واضحة لهذا السؤال. لا بد أن المراجعات الكبرى للمخطوطات اليونانية قد حدثت قريباً من نهاية القرن الثالث أو بداية القرن الرابع
(ربما خلال سنوات السلام الأربعين بين نهاية حقبة الاضطهاد الفاليريني للامبراطور ديسيوس فاليريان Decius- valerian وعام 303م). عندها، على سبيل المثال، أخذ النص الشائع/الكويني Koine شكله في أنطاكية، وحينها في مكان آخر في المشرق كتبت مخطوطة ما شكلت السّلف لمجموعة مخطوطات بيزا كانتابريجينيسيس Codex Bezae Cantabrigiensis (D, 05، القرن الخامس الميلادي). ولم يكن دافع المراجعة في أيٍّ من الحالتين لغويا. لقد دُفع هذا النص للظهور بدوافع كنسية أو لاهوتية. ولم تتم مراجعة النص في هذا النموذج (أو النماذج، ربما نموذجٌ مختلفٌ لكلّ مجموعةٍ من كتابات العهد الجديد) باهتمامٍ كبير من أجل تأسيس أو استعادة النص الأصليّ بقدر ما كانت تلك المراجعات لتحديد النص “الأفضل” حسب انطباع تحريريّeditorial معين.
وعندما أعيدت التنقيحات بدون مثل هذه الأهداف المتحيزة فإن العملية كانت مختلفة إلى حد ما. تم أخذ مخطوطة للنص القياسيّ الحاليّ وتحريرها أو تصحيحها (ولكن ليس تنقيحها) بطريقة محدودة وعملية بشكل أكبر. تم ذلك في المخطوطة الفاتيكانية Codex Vaticanus للأناجيل بالاعتماد على مخطوطة من النوع المتمثل في البردية 75 (من بدايات القرن الثالث الميلادي). ولم تكن هناك أي مقارنات متاحة للرسائل البولسية، ولهذا استخدم “نص مبكر” من بردية تعود للقرن الثاني/الثالث الميلادي (من النّوع المتمثل في البرديات 45، 46، 66) كأساسٍ وتم تصحيحه عند الضرورة. هذا النص من الفترة المبكرة للقرن الثاني/الثالث الميلادي عرف باحتوائه على سماتٍ شاذة (برغم وجود استثناءات؛ راجع البردية 75، وعدة برديات أخريات)،2 بقدر ما كانت التوسعات النّصّية الحرة لا تزال مسموحة وفق المعايير المتبعة في القرن الثاني الميلادي الثاني، عندما لم يكن يُنظر لنص العهد الجديد على أنه “قانوني”، ناهيك عن كونه مقدساً أساساً، ولا حتى بنفس درجة القداسة التي كان ينظر بها النساخ اليهود للعهد القديم ذي النص العبري، (سيتم نقاش هذا لاحقاً في الصفحة 69).
بغض النظر عن قيمة مخطوطة بيزا كانتابريجينيسيس Codex Bezae Cantabrigiensis بوصفها الممثل المعياري “للنّصّ الغربي” فقد اكتسبت تلك القيمة بسبب أن عملية التنقيح المتحيزة التي وقعت لها (أو غالباً تنقيحات جرت على سلفها في القرن الثالث/الرابع الميلادي) اعتمدت على بردية فيها نصّ من هذا النوع في الفترة المبكرة. إنه فقط العدد الكبير من الفقرات التي نجى فيها هذا النموذج من التنقيح وبقيت موافقة لمخطوطات الأحرف الكبيرة الجيدة الأخرى هو فقط ما برر سمعة المخطوطة D وبالتالي السلطة المنسوبة لها ولـ “النص الغربي” – بالتأكيد ليست القراءات التي شكلت خصائصها (أي قراءات النسخة السابقة التي اعتمدت عليها)، كالإضافات التي لا تعد ولا تحصى، والتبديلات، وحالات السهو وغيرها كثير. لا شك أن إنجازات المحرر الأصلي تعتبر بارزةً، لكن فقط كمنقح قام بتغييرٍ جذريٍّ في نصّ نموذجه المبكر ومن فقراتٍ كثيرة. هذه التبديلات لا تستطيع أن تطالب أصلاً باعتبارها أصيلةً. من يود من القرّاء أن يحقّق في هذا التفصيل فليرجع إلى تعليقات إرنست هاينشن Ernst Haenchen على سفر الأعمال.
عند استخدام مصطلح “النّصّ الغربيَ Western text” اليوم، حتى من قبل مناصريه، فإنه سيوضع بين علامتيّ اقتباس بشكل شبه دائم. سبق أن بيّن علم المخطوطات Palaeography أن مخطوط بيزا كانتابريجينيسيسCodex Bezae Cantabrigiensis لم يُكتب في الغرب (بالرغم من نصّه اللاتيني- اليونانيَ)،
ولكن غالباً كُتب في شمال افريقيا أو في مصر. بالطبع، فإن مصدر النموذج المستخدم من قِبل ناسخ المخطوطة (05) D هو مسألة أخرى. دلالة تاريخ الكنيسة، وهو أمر مهمل بشكل كبير إن لم يكن بالكليّة في علم النقد النصي، يعتبر حاسماً في هذه النقطة (راجع صفحة 49 وما بعدها، من المذهل تماماً كم عدد علماء العهد الجديد الذين فشلوا في معاينة التداعيات التاريخية لنظرياتهم، فكانوا يغيرونها وكأنها بتلك السهولة كما أنهم يغيرون موضع مكاتبهم!)
4. الترجمات اللاتينية، والسريانية، والقبطية: الحاجة إلى المخطوطات اليونانية أصبح محدوداً بعد عام ٢٠٠ ميلادي
لم يعد هنالك شك أن اللغة اليونانية كانت هي اللغة التي كُتبت بها كل أجزاء العهد الجديد بالأصل، على الرغم من أن نصوصاً كنسيّة آرامية تم تداولها في الفترة السابقة للأناجيل (هذا إن وُجد تقليد آرامي مكتوب بالأساس ولم يكن شفهياً محضاً). جودة هذه اللغة اليونانية تتنوع، فهي تتراوح من “اليونانية اليهودية” في سفر الرؤيا، إلى الطموحات الأدبية في كتابات لوقاLucan ، امتداداً إلى اليونانية المصقولة في سفر العبرانيين. مع هذا فعند مقارنتها مع الأدب المعاصر، فلن تقف أيّ من كتابات العهد الجديد في وجه رقيّ الأسلوب العصريّ، حتى لو اعترفنا أن بلاغة بولس أنشأت خطّاً أدبياً جديداً في وقتها. تمت كتابة العهد الجديد باللغة اليونانية الشائعة/الكينية Koine Greek، وهي اللغة المحكية في المحادثات اليومية. وحقيقة أن كامل كتابات العهد الجديد كانت قد كتبت باليونانية منذ البدء يعتبر ظاهراً بشكل قاطع من خلال اقتباساتها من العهد القديم، والتي هي بالأساس من الترجمة السبعينية Septuagint، يعتبر هذا الاستنتاج صحيحاً حتى بالنسبة لعالم العبرانية المتأخرة rabbinic بولس.
كانت اليونانية هي اللغة السائدة عالمياً آنذاك، وكانت مفهومة ومحكية في الغرب كما في الشرق. عندما كتبت كنيسة روما رسالة إلى كنيسة كورنثوس (رسالة كليمنت/إكلمندوس الأولى)، كانت بشكل طبيعي مكتوبة باللغة اليونانية، وعندما أراد مؤلف سفر الراعي لهرماس Shepard of Hermas أن يشارك فهمه لباروسيا Parousia* المتأخرة مع رفقائه من المسيحيين في روما حوالي عام 150م، كانت اللغة المستخدمة كذلك اليونانية. لكن كان هناك تغيير يلوح في الأفق. كل كتابات تيرتليان Tertullian المتواجدة في قرطاجة بفترة قصيرة قبل عام 200م كانت قد كتبت باللاتينية، على الرغم من أنه كان طليق اللسان باليونانية. والمراسلات بين الكنائس في روما وقرطاج تمت باللغة اللاتينية حوالي 250م. هيبوليتوس Hippolytus، الأسقف المعادي لروما علمياً توفي حوالي عام 235م. على الرغم من أن كتاباته، التي كانت باليونانية، مثلت أبدع الإنجازات الأدبية لأيّ أسقف تولى منصب أسقفيّة روما خلال القرون الميلادية الأربعة الأولى، فقد اعتراها النسيان الفوريّ لأنها وبوضوح لم تجد جمهوراً من القرّاء – بقيت تلك الكتابات حتى اكتشفتها البعثات المعاصرة. المؤلَف الضخم الذي كتبه إيريناوس Irenaus، ضد الهرطقات، ادفيرسوس هاريسيس Adversus haereses، وهو عمل ذو أهمية عميقة في تطور حياة الكنيسة أواخر القرن الثاني الميلادي، كان قد كتب باليونانية في بلاد الغال – فرنسا – حوالي 180م. عدا عن بضعة اقتباسات للكتبة المشرقيين فإن النص اليوناني قد اختفى، وتم حفظه فقط في التقليد اللاتيني.
بدأت حركة المد حوالي 180م تتراجع في الكنيسة الغربية (وليس فقط في الغرب، بل كذلك في المناطق الناطقة بالسريانية والقبطية). بدأت اللغات الإقليمية في تلك المناطق تعزز من سطوتها، أو على الأقل بدأت تطالب بحقوقها. ارتبط ذلك بأعداد المسيحيين المتزايدة آنذاك.
منذ بدأت الكنيسة تنتشر بين عامة الناس، تزايدت أعداد المسيحيين الذين لم يستطيعوا فهم اللغة اليونانية وسريعاً أصبحت أعدادهم هائلة بحيث صارت اللغات الإقليمية هي البيئة الضرورية للوعظ بالإنجيل. في الغرب، ولنذكر منطقة واحدة (على الرغم من أن الحال كان نفسه في باقي المناطق)، كانت الحاجة ملحة لتوافر ترجمةٍ لكامل العهد الجديد. بحلول منتصف القرن الثالث الميلادي كانت مرحلة انتقالية لطقوس عبادة ثنائية اللغة (غالباً كان النص اليوناني يُقرأ أولاً، ويُتبع بترجمةٍ لاتينية حرة أو قراءةٍ لنسخة لاتينية مصنوعةٍ حديثاً) هي التي أتاحت فتح الطريق أمام الاستخدام الحصري للغة اللاتينية لاحقاً. وبالنتيجة لو كان المجال متاحاً لتطوير نص يوناني ذو شكل خاص في الغرب، فإن الفرصة لهذا كانت مقتضبةً بشكل نسبيّ. قد يكون صحيحاً أن المستوطنات والمستعمرات اليونانية بقيت (خصوصاً في جنوب إيطاليا، وكذلك في الشمال حول رافيناRavenna )، وأنه حتى العبادات في يومنا هذا تشاهد باللغة اليونانية في دير غروتافيراتا Grottaferata، مؤسسة تعود للقرن الحادي عشر على عتبات بوابات روما. لكن الكنيسة في إيطاليا، وكذلك نظيراتها في فرنسا وباقي المقاطعات في الغرب، كانت كنيسة لاتينية بحلول منتصف القرن الثالث إن لم يكن في وقت أقدم.
5. مراكز إنتاج المخطوطات اليونانية
تعتبر دراسة أدولف هارناخ Adolf Harnack الأساسية “مهمة وانتشار المسيحية في القرون الثلاثة الأولىDie Mission und Ausbreitung des Christentums in den ersten drei Jahrhunderten” (41924, طبعة معادة، لايبزغ: 1965م؛ ترجمة انجليزية بواسطة جيمس موفات James Moffatt [لندن:([1904/5 ، 21908 لا تزال تعتبر المصدر الأفضل للمعلومات الدالة على تطور المسيحية في مراحلها المبكرة، وعدد الكنائس، وقوة كلّ منها. فهي تظهر أن تركيز الكنائس الأكبر حوالي عام 180م كان في آسيا الصغرى وعلى طول ساحل بحر إيجة اليوناني. نحن نعلم بوجود كنائس معزولة قليلة في قبرص وجزيرة كريت، على الرغم من أن الديانة المسيحية كانت على الأرجح تمتلك موطئ قدمٍ قويٍ هنالك. كان هنالك العديد من الكنائس المسيحية الكبيرة والمؤسسة بشكل جيد في شمال إفريقيا (خصوصاً في نوميديا وكذلك في برقة)، وفي جنوب فرنسا، وربما في جنوب إسبانيا، وفي المقاطعات حول الاسكندرية في مصر، وحول أنطاكية في سوريا، وبالتأكيد في الرّها ومحيطها، بالإضافة إلى مالطة ومحيطها. كانت كنيسة روما المميزة في إيطاليا، لكن تواجدت كنائس منتشرة حول البلاد جنوب صقلية. كانت هذه الظروف التي تطوّر وسطها نص العهد الجديد وتم تداوله. إن الانطباع الكليّ يقول أن الكتلة الأساسية للكنائس كانت في الشرق. وكلما اتجهنا للغرب ستقل أعداد الكنائس. في حين أن مناطق واسعة من الغرب لم يصل إليها الدين المسيحيّ. ووصولاً حتى العام 325م تقريباً لم يتغير المشهد بشكل كبير. استمرت آسيا الصغرى بكونها قلب الأراضي الكنسيّة. مثل الشعب المسيحي هنا وفي المنطقة الساحلية المقابل لثراسيا Thracia، في قبرص، وفي المناطق النائية للرّها Edessa، نصف السكان تقريباً، وتوسعت الكنيسة بنفس القوة إلى الشرق من آسيا الصغرى (تركيا اليوم) إلى أرمينيا. بلغة الأرقام بالنسبة للمسيحيين والكنائس، فإن سوريا تأتي بالمرتبة الثانية، ومقاطعات على طول نهر النّيل، وساحل اليونان وجزيرة كريت، ونوميديا وبرقة في شمال إفريقيا، وجنوب إسبانيا والساحل الغربي شمال المنطقة الجنوبية من فرنسا، وفي إيطاليا محيط روما و نابولي، بالإضافة إلى الأراضي الساحلية للبحر الأدرياتيكيّ.
هذه هي المناطق التي أسّست فيها الديانة المسيحية بشكل جيد نسبياً بين الناس. كانت هذه هي المواضع الحرجة لانتقال مخطوطات العهد الجديد ولتطور أنواعها النصية.
-
هل طوّر الغربيون نمطاً نصيّاً خاصاً بهم؟
لقد تأثرت نظرتنا لدور الغرب وروما في الكنيسة المبكرة بشدة بواسطة التاريخ المتأخر. لعبت روما وإيطاليا دوراً متدنياً في الفترة الأقدم من تاريخ الكنيسة فيما بتعلق بالاهتمامات اللاهوتية والعلمية، وهي موضع تركيزنا الحالي. بلا شك كانت هناك كنيسة في روما عندما أرسل بولس رسالته إلى أهل روما. عندما رست السفينة التي أحضرت بولس إلى روما كسجين في ميناء بوتيولي Puteoli، فإنه قد وجد كنيسة قد تأسست بالفعل هنالك (أعمال الرسل 28 : 13-14). أضف إلى ذلك أن الكنيسة في روما استمرت بكونها منتجةً على نحو هام حتى نهاية القرن الثاني الميلادي وامتداداً إلى النصف الأول من القرن الثالث الميلادي، هذا الإنتاج كان موجهاً بشكل رئيسي نحو الأمور الرّعوية، وخصوصاً في اللاهوت التطبيقيّ: توسيع الشكل البدائي للعقيدة، والمساهمة في تعريف القانون (راجع. القانون الموراتوري)، والمساهمة في تطوير ممارسات الكنيسة المتعلقة بالكفّارة، وتحسين البنية الإدارية للكنيسة. في عام 217م، العام الذي انتخب فيه أسقف جديد لروما، ميّز ذاك الانتخاب أن كاليستوس Callistus اختير على حساب هيبوليتوس Hippolytus، وهو اللاهوتي الأبرز الذي حظيت به روما على الإطلاق (كما أننا نستطيع معاينة تلك الحقيقة القائلة بأن موقف كاليستوس Callistus السلبي من علم اللاهوت لم يكن وحيداً، بل ذاك الخاص بالأسقفين اللذين سبقاه كذلك). تكرر ذات الأمر عام 251م، عند تفضيل كورنيليوس Cornelius على نوفاتيان Novatian على الرغم من أن الأخير كان قد قضى خدمته بصفته قائد الكنيسة المؤقت – وهنا اللاهوتي يقصي القائد الطّقسيّ مرة أخرى. أضف لمعلوماتك أن نوفاتيان Novatian كان من مدينة روما على عكس هيبوليتوس Hippolytus. هذا الأخير كان من آسيا الصغرى، وهي منشأ غالب القادة اللاهوتيين في روما خلال القرن الثاني الميلادي. أتى ماركيون Marcion حوالي 140م إلى روما قادماً من منطقة البحر الأسود، محضراً معه نصّ العهد الجديد الذي استخدمه هنالك. أما جاستن Justin فقد نشط في روما حوالي 150م، على الرغم من أن مسقط رأسه كان فلسطين وبرغم كونه متحوّلاً إلى الديانة المسيحية في آسيا الصغرى. ونستطيع تسمية آخرين: جميع الدفاعيين Apologists جاؤوا من المشرق، ليس فقط جاستن Justin، وغالباً من آسيا الصغرى أو اليونان. ومثلهم الملكيون Monarchians الذين أثاروا جدالات لاهوتية فعالة في روما قريباً من نهاية القرن الثاني الميلادي قدموا من آسيا الصغرى. لم يكتب في الغرب أي سفر من كتابات الآباء الرسوليين إلا الرسالة الأولى إلى إكلمنت/إكلمندس و سفر الراعي هرماس، وربما نضيف إليهما الخطبة المتداولة تحت اسم الرسالة الثانية إلى إكلمنت/إكلمندوس – غير أنها كتابات توصف بالركاكة وتم تفخيمها زيادة عن اللزوم. أما المعلم الحقيقي الوحيد الذي نجده في الغرب خلال النصف الاخير من القرن الثاني الميلادي كان في بلاد الغال، فرنسا: وهو إيريناوس Irenaeus. آسيا الصغرى ليست فقط مسقط رأسه، بل موئل ثقافته وعلمه اللاهوتي كذلك. أما المعلم ضمن الآباء الرسوليين خلال النصف الأول من القرن الثاني الميلادي فكان يدعى أغناطيوس Ignatius – من أنطاكية.
أينما قلّبت طرفك في الغرب فلن تجد عقلية لاهوتيةً قادرةً على تطوير وتحرير “نصّ غربيّ” مستقلّ (حتى وإن تم تأليف سفر العبرانيين في إيطاليا، كما يُقترح غالباً، فإنه لن يشبع تطلعات أيّ لاهوتيّ). لم يتواجد تقليد نصّيّ غربيّ في الأزمنة المبكرة إلا وقد تشارك مع نظيره المشرقيّ: لم يكن هنالك حينها سوى نصٍّ ذي مواصفات فردية اختلف من مخطوطة لأخرى، إذ لم يتم تأسيس نص العهد الجديد بشكل ثابت في القرن الثاني بعد.
وفي وقت متأخر أي في عام 150م، وهو الزمن الذي نجد فيه آثار الاقتباسات من الأناجيل في كتابات جاستن الشهيد Justin Martyr، فإننا نلحظ أن أسلوب الاقتباس يعتبر حراً بشكل ملحوظ، الأمثلة الأقدم تتسم أكثر بكونها تلميحات وإعادة صياغة. ولم نستطع تتبع أية علامات لنص معترف به قانونياً حتى عام 180م (عند إيرناوسIrenaeus ). صحيحٌ أنه من الممكن حيازة “النص المبكر” لبعض من الخصائص المُميَّزة في الغرب (كنص محليّ)، لكن من المستحيل أن نعرف من هم الأشخاص أو المناسبات التّي مكنت ذلك التّطور من الحدوث بالشكل الذي يقترحه بي. إف. ويسكوت B. F. Wescott و إف. جي. هورت F. J. Hort وأتباعهما الجدد. ومن غير المقنع البتّة أن نص مخطوط بيزا كانتابريجينيسيس Codex Bezae Cantabrigiensis كان قد ظهر للوجود باكراً في القرن الثاني الميلاديّ. ومن المهم كذلك، كما كنّا ذكرنا سابقاً فإن تبعات ما قلنا تجعل من الصعب أن يشير شخصٌ اليوم إلى النص الغربي المفترض من دون أن يحيط كلمات هذا المصطلح بإشارتيّ اقتباس ” “، هكذا “النّصّ الغربيّ”.
7. انتشار مخطوطات العهد الجديد وأنواعها النّصية
إن ما سبق ذكره يعتبر كافياً جداً في حق شبح “النّصّ الغربيّ”. بالعودة لموضوعنا الأكبر: كيف ابتدأ كتاب العهد الجديد بالتداول بين الناس، وكيف تم إنتاج مخطوطات العهد الجديد؟ تداول مستند ما يبدأ إما من مكان نشأته (أو المقاطعة التابعة للكنيسة)، حيث كتبه المؤلف، أو من مكان إرساليته (فلو تأكدت أصالة الرسالة – كالرسائل الرسمية epistles فإنها ستعتبر كباقي كتابات العهد الجديد). حينها فلا بد من نسخٍ عن الأصل للاستخدام في الكنائس المجاورة. يمكننا تشبيه مداورة الكتب بين الناس كتموجات الماء في بركة ساكنة عند رميك لحجر فيها، تنتشر في جميع الاتجاهات سوياً. عند مشاركة كتاب ما بين مناطق الإبراشية أو المطرانية الواحدة باستخدام نسخٍ متكررة، فإن الروابط المتينة بين الإبراشيات ستحمل تلكم النسخ من منطقة لأخرى، ثم تعاد نفس العملية وهكذا. بدأت مخطوطات العهد الجديد بالتضاعف منذ اللحظة التي طلبت فيها الكنيسة المسيحية استخدام كتب مقدّسةٍ إلى جانب الترجمة السبعينيّة Septuagint، أي عندما تطلبت الخدمة العبادية الطقسية قراءة وعرض دروس من كلا العهدين القديم والجديد باعتبار العهد الجديد كذلك نصّاًّ مقدّساً. وعلى هذا فإنه من الطبيعي اعتبار رسائل بولس قد قُرئت أولاً في الكنائس التي أسسها بولس نفسه، ثم غدت جزءاً من سلسلة الدروس الطّقسيّة. هذا ما كان عليه الحال حتى منتصف القرن الثاني الميلادي، إذ تطلب إنشاء كل كنيسة جديدة إنتاج مخطوطة أخرى من العهد الجديد.
في تلك النقطة من التاريخ بات قانون العهد الجديد ذا أهمية كبيرة. فإن لم يزوّد مؤسس كنيسة ما مخطوطة للعهد الجديد للأتباع، سيصبح من الضروري صنع نسخة من نموذج يحتفظ به أو من مخطوطة مستعارة. في الفترة الباكرة كانت تصنع المخطوطات بشكل خصوصي: إذ لم يتواجد قبل عام 200م أيّ مركز نسخيّ/دار نسخ Scriptoria(مراكز خاصة لنسخ المخطوطات بشكل احترافي) على أقدم تقدير. ومع مرور الوقت أنتجت طريقة النسخ الخصوصية (كلٌّ ينسخ نسخته الخاصة) تشكيلة زاخرة من العائلات النّصّية الصغيرة (مخطوطة أمّ، وأولادها من المخطوطات) ضمن مجموعات إبراشية أكبر (إلى الحدّ الذي بتنا فيه قادرين على تمييز هذه الفروقات بين كلّ من العائلات النّصّية).
وكلّما كان تنظيم الإبراشيّة متراخياً، أو كلّما تضخمت الاختلافات بين الكنائس التي تكوّن تلك الإبراشية، وكلّما تعايشت أنواع نصّيّة مختلفة بشكل أكبر (كما حدث في مصر قديماً). 5 وبالعكس كلّما توحّد تنظيم هيكلية الإبراشية، كلّما نشأ نوعٌ نصّيّ واحد، يتّضح ذلك جلياً في نوع النص التابع للامبراطورية البيزنطية Byzentine Imperial والذي كان ذو أثر متوسع بسرعة منذ القرن الرابع الميلادي6 ليصبح باطّراد هو النص المسيطر للكنيسة البيزنطيّة.
على الرغم من كل ما قلناه فإن الاختلافات لا تزال متواجدةً، وحتى ضمن النص الامبراطوري البيزنطيّ الذي لا يمكن اعتباره وحدةً متجانسةً. يمكننا القول عن هذا النص أنه تطوّر بطرق متنوعة ومختلفة، وعلى الرغم من أن تلك التنوعات لم تبدّل الشخصية الأساسية للنص، حتى لو أنه نص مقسم إلى مجموعتين منفصلتين. لم يستطع أي تقليد نصي مجابهة سيطرة نوع النص البيزنطي إلا في الكنائس التي حافظت على تقليدها الأثري الخاص، أو في تلك الكنائس المعزولة عن الكنيسة البيزنطية أو المعاكسة لطقوسها، حيث استطاع تقليدها النصي الوقوف في وجه سيطرة النص البيزنطي. لكن على المدى الطويل كان مستحيلا أن تصمد حتى تلك الكنائس ولم تنجح في الهروب التام من الهيمنة النصية البيزنطية. يبدو هذا المثال واضحاً في مصر التي قادت فيها الكنيسة نمط حياة مستقلّ منذ القرن الخامس الميلادي على أقل تقدير، والتي ازداد صراعها مع الكنيسة البيزنطية في الجدالات الخرستولوجية وتماشياً مع المقاومة المتنامية للثقافة اليونانية. عُرف نوع نصي معترف به هنالك منذ القرن الرابع يعرف باسم (نوع النص السكندري) وذلك نسبة لمركزية الإدارة بشكل فعال في بطركية الاسكندرية. ولكن بمرور السنوات طغى الأثر التآكلي للنص الكوينيّ الشائعKoine (كلّما تأخر عمر المخطوطة، كلما ازاد تأثيرها بشكل أوسع). أنتج النص السكندري في النهاية شيئاً يعرف بالنص المصري Egyptian Text. لكن هذا النص تعرض لاحقاً لاضمحلال في انتشاره بسبب نماء شعبية الترجمات القبطية. أضف إلى ذلك أنه لا بد من الاعتراف بنجاة العديد من النصوص الفردية والأنواع النصيّة ضمن عالم هيمن عليه النص الامبراطوري البيزنطي وكانت تلك النجاة عنيدةً بشكل لا يقهر لأن التماسك يعتبر من أهم خاصيات تاريخ نصوص العهد الجديد: ففي اللحظة التي تدخل فيها قراءة جديدة إلى التقليد النصي فإنها ترفض الخروج منه والاختفاء، وتصر على البقاء (حتى لو لم ترد إلا في بضع مخطوطات) والديمومة عبر قرونٍ من الزمن. واحد من أكثر السمات الملفتة للنظر في تقليد نص العهد الجديد هي المعاندة.
-
النص الخاص بالحقبة المبكرة
في حال رغبتك بفهم التاريخ النصي للعهد الجديد، لابد لك من البدء بدراسة المخطوطات الأقدم. ونعني بذلك مخطوطات لا يتخطى تاريخها القرن الثالث/الرابع الميلادي، إذ أن حقبة جديدة ابتدأت مع حلول القرن الرابع الميلادي. فقد حازت كل مخطوطة من الفترة الأقدم، سواء كتبت على أوراق البردي أو الرقوق، على أهمية متوارثة في علم النقد النصي للعهد للجديد: فهي تشهد على حقبة كان نص العهد الجديد لا يزال يتطور بشكل حر. نرى تلك المخطوطات في الجدول 3.
وهي بمجموعها تعدّ 43 بردية و 5 مخطوطات أحرف كبيرة (أو بشكل أدق علمياً هي 4 مخطوطات أحرف كبيرة، لأن المخطوطة 0212 هي نص دياطسرونيّ ولا يجب حسبانها).
الجدول 3. | توزيع المخطوطات اليونانية الأقدم حسب القرون |
بواكير القرن الثاني | P52 |
القرن الثاني | P90 |
حوالي 200م | P32, P46, P64/67, P66 |
القرن الثاني/ الثالث | P77, 0189 |
القرن الثالث | P1, P4, P5, P9, P12, P20, P22, P23, P27, P28, P29, P30, P39, P40, P45, P47, P48, P49, P53, P65, P69, P70, P75, P80, P87, P95, 0212, 0220 |
القرن الثالث/ الرابع | P13, P16, P18, P37, P38, P72, P78, P92, 0162, 0171 |
ومن بين هذه البرديات فإن البردية 52 تحمل مكانة خاصة كالشاهد الأقدم على نص العهد الجديد (مكتوبة تقريباً سنة 125م، هي الآن محفوظة في مكتبة جون رايلاندز John Rylands Library، في مانشستر، وتحوي على الأعداد يوحنا 18 : 31 – 33 ، 37 – 38). تعتبر كل من بردية تشيستر بيتي Chester Beattyوبردية بودمر Bodmer من أهم البرديات وذلك ليس فقط بالنسبة لعمرهما، بل كذلك لقيمتهما من حيث طول وخصائص النص الذي فيهما. أما البرديات 45، 46، 47 (وهنّ مكونات بردية تشيستر بيتي Chester Beatty الشهيرة التّي شكلت روح العصر في ثلاثينيات القرن المنصرم 1930) فإنها تتضمن الأناجيل وسفر الأعمال ضمن البردية 45 (مع وجود ثغرات معتبرة فيها، تبدأ من متّى 20 : 24 وتنتهي في أعمال الرسل 17 : 17). أما ضمن البردية 46 نجد رسائل بولس (كذلك مع ثغرات، إذ ينقصها الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي، والرسالة إلى فيليمون، والرسائل الرعوية بالكامل)، والبردية 47 نجد فيها سفر الرؤيا (رؤيا 9 : 10 – 17 : 2، مع بعض الثغرات). أما بردية بودمر Bodmer التي عرفت في خمسينيات القرن الماضي 1950، فتحتوي ضمن البردية 66 التابعة لها على إنجيل يوحنا (يوحنا 1 : 1 – 14 : 30 مع غياب الثغرات تقريباً، وباقي الإنجيل يتواجد ضمن قصاصات). وفي البردية 72 سنجد يهوذا ورسائل بطرس الأولى والثانية، وفي البردية 75 نرى إنجيل لوقا (بداية من لوقا 3 : 10 مع بعض الثغرات) وإنجيل يوحنا (يوحنا 1 : 1 – 15 : 8 كذلك مع بعض الثغرات). البردية 66 كانت أول كتاب يوناني مكتوب على ورق البرديّ واستطاع الحفاظ حتى على خياطة صفحاته ببعضها بشكل شبه سليم، أما البردية 75 فلا تزال محافظة على أربطتها، وباقي البرديات خاصة البردية 72 فهي تحوي بشكل جيد على صفحات غير مخربة. وبالتالي فإن برديات بودمر Bodmer تتفوق على برديات تشيستر بيتي Chester Beattyفيما يخص نوعية حفظها، وفي طول نصوصها، وفي أهميتها النّصّيّة. كان الاعتقاد سائداً بأن النّصّ الخاص بالقرنين الثاني والثالث الميلاديين استمدّ خصائصه اعتماداً على الكثير من عدم الانتظام وذلك نظراً لما قدمته البرديتان 45 و 46 من دلائل، بقي هذا الاعتقاد مهيمناً حتى اكتشاف هاتين البرديتين ونعني هنا بودمر و تشيستر. أكدت البردية 66 هذا الظن. ونفته البردية 75، بسبب تقارب نصها من ذاك الخاص بالمخطوطة الفاتيكانية Codex Vaticanus بشكل كبير حتى شككنا بأنتلك البردية هي الأصل/النموذج الذي اعتمدت عليه المخطوطة الفاتيكانية. ومع اكتشاف البردية 75 كنا قد اكتشفنا أخيراً مفتاحاً لفهم تاريخ النص المبكر.
يجب عرض هذه البرديات “العظيمة” على الدارسين منذ البداية لأنها بنفس أهمية، بل أنها قد تتفوق في بعض النواحي على
على الكثير من مخطوطات الأحرف الكبيرة العظمى uncial manuscripts الخاصة بالعهد الجديد.
بالنسبة لمجموعة البرديات ومخطوطات الأحرف الكبيرة التي ستذكر لاحقاً في هذا الكتاب من الصفحة 96 – 102 ومن الصفحة 107 – 128 فإنها تأتي في الترتيب الثاني من حيث الأهمية بعد البرديات التي ذكرت من قبل وذلك لسبب وجيه (وهو أن معظم البرديات التالي ذكرها هي عبارة عن قصاصات/شذرات). وهنا لا يجب أن ننسى أن كل قصاصة من هذه القصاصات تشكل مخطوطة مكتملة من حيث التصنيف لمجرد أنها تحوي على الأقل فقرة من النص الناجي. فلو حفظت قصاصةٌ ما فقرةً تحتوي اختلافا نصيّاً واضحاً عن التقليد النصّيّ المتعارف عليه، فهذا الافتراق يعدّ كافياً للإشارة إلى الخاصّيات النّصية للمخطوطة كاملةً التّي تمثلها تلك القصاصة. فلا حاجة لتناول برطمان كامل من المربّى حتى نتعرّف على خواصّه ومحتوياته – فتناول ملعقة أو اثنتين يعتبر كافياً!
إن معظم المصطلحات والمعايير المستخدمة تقليدياً من قبل النقّاد النّصيين لتحديد الخاصية النصية لهذه القصاصات تعتبر محيّرة أكثر من كونها موضحة لحقيقة الأمور.
ومثال ذلك هو الملحق الذي كتبه بروس م. ميتزجر Bruce M. Metzeger في كتابه “نصّ العهد الجديد”The Text of the New Testament ، ففي ملحق هذا الكتاب، صفحة 247-256، ضمن قسم “قائمة تعديد البرديات اليونانية الخاصة بالعهد الجديد” واصفاّ البردية 32 على سبيل المثال، قائلاّ أنها : ” تتوافق مع المخطوطة السينائية ϰ، ومع كلّ من F وG” (صفحة 250). فماذا عنى بذلك؟ سنشرح الأمر كالتالي : حوالي عام 200 م، زمن كتابة هذه البردية 32، لم تتواجد اصلاً المخطوطة ϰ المكتوبة في القرن الرابع الميلادي، ولا حتى المخطوطتان F وG كانتا قد كتبتا آنذاك، إذ أنهما تعودان للقرن التاسع الميلادي. ويناقش في الملحق البردية 47: “إنها تتوافق مع A، C، وϰ” (صفحة 252). لقد وصف هاهنا، كما في كثير من الحالات، العلاقة التي يمكن أن تتواجد بالفعل ولكن بالمقلوب (بالنسبة للبردية 47 كان شرحهم عنها بشكل خاطئ، فهي حليفة بالفعل للنّص الوارد في المخطوطة ϰ، لكن لا علاقة لها مطلقاً بالمخطوطتين الأخريين A وC، اللتان تنتسبان إلى نوع نصّيّ مختلف تماماً). بالإضافة لذلك، ليس من المنطقي أن نربط القرابات النّصيّة في المخطوطات القديمة نسبةً إلى تلك المتأخرة، بل العكس هو الصحيح (فالأب دوماً يورّث ابنه، لا العكس). بالتالي، نستنتج أن إطلاق بعض المصطلحات مثل وصف “النص المختلط mixed text” أو “نصّ جزئياً سكندري، وجزئياً غربيّ (ما قبل قيصري)”، إلخ، لوصف المخطوطات التي تعود إلى فترة لم تكن فيها هذه المجموعات قد تطورت بعد ولا يمكن أن تكون “مختلطة” لا تسهم بأي شيء في تفكير سليم.
قد تبدو هذه المصطلحات علميّة بشكل عميق، إلا أنها لا تزيد القضيّة إلا غموضاً. ودعونا لا ننسى أن كل الشواهد الواردة في الجدول 3. في الصفحة 57، عدا 0212 التي وُجدت في مدينة الصالحية السورية Dura Europus، تم الكشف عنها في مصر، المعروفة برمالها الحارة والجافة، مما ساهم في حفظ البرديات عبر قرونٍ من الزمن (كما اكتشف العديد من البرديات في ظروف مناخية مشابهة في صحراء النّقب Judaean Desert). ولم تسمح الظروف المناخية في باقي مراكز الديانة المسيحية الكبرى لأي وثائق بالنجاة. دفع هذا الواقع العديد من التساؤلات فيما إذا كانت الحالة المصرية قابلة للتعميم ولأي مدى يمكن اعتبار تلك البقايا الأثرية كافية لمثل هذا التعميم. يجب الاعتراف بأن مصر في تلك الحقبات الغابرة كانت تتمتع بحالة متفردة عن باقي المقاطعات التابعة للكنيسة المسيحية، حسب ما مكنتنا المعلومات المتوافرة للحكم على الظرف آنذاك، بكونها تابعة لسيطرة النزعة الغنوصية Gnosticism؛ والتي حافظت على سيطرتها حتى حوالي عام 200م، حينما نجح الأسقف ديمتريوس Demetrius في إعادة تنظيم الإبراشية وبناء أسس راسخة للتواصل مع باقي الكنائس. إننا لا نملك أي وثائق عن تاريخ كنيسة مصر قبل هذا التاريخ، على الرغم من انتشار المذهب الغنوصي إلى جانب تمثيلٍ أوسع لباقي الكنائس هنالك في ذاك الزمان. تم تأسيس مدرسة الإسكندرية الإكريليكيّة في ذاك الوقت تقريباً كأول “جامعة مسيحية”.
يسود ظنّ قوي بأن الأسقف ديمتريوس Demetrius امتلك عدداً من المخطوطات المجهزة ضمن دار نسخ Scriptorium مخصص تابع للمدرسة الإكريليكية بهدف إعادة تنظيم الإبراشيّة الجديد (كان غرضها هذه المرة موجهاً لميعاد تنصيبه في مركز الأسقفية Chorepiscopi الجديد) والكنائس التابعة لها (هذه المخطوطات صُنعت بالتأكيد في ذلك المركز رغم عدم تواجد أي دليل وثائقي). مما يظن أنه السبب في تكوين “النص السكندري” المميز هو تخصيص مخطوطات محددة دون أخرى لتكون المخطوطات النموذجية (والتي يعتقد أنه تم استيرادها من مقاطعات أخرى تابعة للكنيسة الكبيرة). لكن هذه الفرضية، الممكنة في جوهرها، لا تتماشى مع الدلائل الواردة في المخطوطات التي بحوزتنا حتى القرن الثالث /الرابع الميلادي. بالتالي فإن البرديات 45، 46، 66، ومجموعة كاملة من المخطوطات تقدّم لنا نصّاً “حرّاً”، بمعنى؛ أنه نصّ يتعامل مع النّصّ الأصيل بطريقة تتصف بالحرية من حيث عدم وضع اقتراحات لإقرار برنامج محدد يتعامل مع ذلك النّصّ الأصليّ لجعله معياريّاً (أو هل يا تراها تلك المخطوطات قد استوردت من مكان آخر مختلف عن مكان استكشافها؟). وقد ذهب البعض بعيداً في هذا السياق حتى أنهم اعتبروا تلك النّصوص “الحرة” نصوصاً مطابقةً ومعيارية بالنسبة للفترة المبكرة. على كل حال فإن ذلك يستحيل أن يكون صحيحاً، فقد ظهرت للوجود تجميعات نصية حديثة لجميع مخطوطات الحقبة الأقدم المبكرة صادرة عن معهد الأبحاث النّصيّة للعهد الجديدInstitute for New Testament Textual Research.
وهذا النص “الحرّ FREE” يمثل واحداً من تنوعات النّصوص العديدة في تلك الفترة المبكرة. إذ يوجد بالإضافة له عددٌ معتبر من المخطوطات الممثلة للنّصّ “العادي NORMAL”، أي تقليدٌ نصّيٌّ أمينٌ لحدّ ما والذّي يفترق عن أصله السابق exampler في مناسبات قليلة نسبياً، وهذا الوضع الافتراقيّ هو الحاصل لجميع مخطوطات العهد الجديد في كل قرن. وهنالك عدد مساوٍ تقريباً من المخطوطات الممثلة للنّصّ “الصّارم STRICT” وهي المخطوطات التي تنقل الأصل السابق بحذر شديد (منها البردية P75 ) وتفترق عنه نادراً. وأخيراً، نجد القليل من المخطوطات التي تنقل نصّاً “معاد الصّياغة” PARAPHRASTIC، وهي المنتمية إلى عائلة قريبة من المخطوطة D. من الجلّي أنه حتى في مصر لم يتم صدور معايير قياسيّة لمعايرة النّص حتى بداية القرن الرابع الميلادي من خلال تداول عدد كبير من نسخ تابعة لنص كان بمثابة النموذج لها، “نص نموذجي MODEL” والذي تصدره سلطات مركزية مختصة بهذه الأمور. (من أجل مزيد من التفاصيل راجع قائمة البرديات من صفحة 96 إلى 102 في هذا الكتاب، حيث تصنّف كل بردية وفقاً للنوع الذي تتبع له).
أما النّصّ في الحقبة المبكرة السابقة للقرن الثالث/ الرابع الميلادي فلم يكن مقسماً إلى أنواع حينها، إذ كان ينقص الكنائس التنظيم المؤسساتيّ اللازم لإنتاج الأنواع الخاصة بالنصوص واستمر ذلك حتى بداية القرن الرابع الميلادي. أهم ممثلي هذا النّصّ غير المصنف هما جاستن Justin و بوليكاربوس Polycarp، ذلك حوالي عام 130 و 150م (ففي الكتابات الأقدم كان نص العهد الجديد أقرب للتّشتّت و كان صعب المنال، خصوصاً ذاك الخاص بالأناجيل). حينها بدأ العهد القديم يفقد من مكانته المركزية كالنّصّ المقدّس الوحيد (في البداية مثّل العهد القديم في الكنائس مقام القداسة ذاته الذي يمثله الآن العهد الجديد). لكن نصّ العهد الجديد لم يتم التحكم به حينها من قبل أيّة سلطات إكليريكيّة. وقد تم الاتفاق على قانون الأناجيل الأربعة وقانون الرسائل البولسية حوالي عام 180م، ما عدا الرسالة إلى العبرانيين وسفر الرؤيا اللذان بقيا محل خلاف، كما كان الأمر بالنسبة لبعض الرسائل الكاثوليكية.
كملخص لما جاء، فإننا بالإضافة للنص “الحرّ” FREE والنصّ “معاد الصّياغة” PARAPHRASTIC اللذان يظهران تنوعات نصية هي الأكثر افتراقاً، نجد كذلك النّصّ “العادي” NORMAL الذي بقي قريباً نوعاً ما من نماذج النّص الأصليّ إلا أنه لم يخلُ من بعض الخاصيات غير الاعتياديّة، ونهايةً لدينا النّصّ “الصّارم” STRICT الذي يمثل نوعاً نصيّاً محافظاً على معايير أشدّ دقة في النسخ. حتى القرن الثالث/ الرابع الميلادي، تواجدت الكثير من أشكال النصوص المختلفة عن بعضها والعائدة للعهد الجديد، منها بعض النصوص التي يتوقع قرابتها من نص المخطوطة D، أما تأسيس الأنواع المعروفة للنّصّ فلم يتم حتى القرن الرابع الميلادي، بعد فترة استمرت لعقود من السلام قبل أن تبدأ فترة اضطهاد ديقلديانوس Diocletianic Persecutions.
-
عهد قسطنطين Constantine
نَعُمت الكنيسة بالسلام لمدة أربعة عقود كاملة بعد حقبة الاضطهاد للامبراطورين المضطهدين ديسيوس وفاليريان Decius and valerian عام 250 حتى 260م، واستمر ذلك الوضع حتى عام 303م. لم يلبث أن عاد عصر الاضطهاد بشكل مفاجئٍ وأكثر ضراوة في عهد الامبراطور ديقلديانوس Diocletian في معركة أخيرة للوثنية ضد الديانة المسيحية. شكلت فترة السلام المذكورة آنفاً مرحلة حرجة وحاسمة في تطوّر نص العهد الجديد. ففي أنطاكية تم صقل النّصّ من ناحية أسلوبه، وتم تحريره إكليريكيّاً، وتم توسيعه بتفانٍ منقطع النظير. من هنا نشأ النّص الكوينيّ/الكينيّ KOINE الشائع، والذي أصبح فيما بعد النّصّ الامبراطوري البيزنطيّ BYZANTINE IMPERIAL. يسمى هذا النص في التقاليد الخاصة بالقرن الرابع الميلادي بنصّ لوسيان Lucian. قام في نفس الوقت عالم لاهوت آخر بتولّي مهمة مراجعة نصّ أقدم معتمداً على البرديات وبشكل أكثر تمعناً (على الغالب شملت تلك المراجعة الأناجيل وسفر الأعمال)،
لكن نصّ لوسيان Lucian تلقى دعماً قوياً في القرن الرابع، بينما لم يَحُزْ النص المنافس له (سلف مخطوطة بيزا كانتابريجينيسيس Codex Bezae Cantabrigiensis) على أي دعم رسمي وبالتالي لم يتم حفظه إلا في بضعة مخطوطات، تشمل مخطوطة بيزا (Dea, 05) وبعض أسلافها وبعض أبناءها القليلين جداً. دُعي هذا النّص بالنّصّ D (تماشيا مع الاستعمال الشائع) بسبب المخطوطة الأساسية التي تمثله.
يمكن تتبع آثار الأنواع النصية الكبرى حتى فترة الاضطهاد الديقلديانوسيّ Diocletianic وعهد قسطنطين Constantine الذي تلاه. قد يدعونا هذا التناقض للشعور بالاستغراب. لكن فترة الاضطهاد التي امتدت لعشرة سنوات في الغرب وفترة أطول بكثير في المشرق كانت تتصف بالتدمير الممنهج لأبنية الكنائس (والمراكز الكنسية)، ثم حرق كل المخطوطات التي بها على العلن. واضطر قادة الكنيسة أن يسلّموا كل ما بحوزتهم أو تحت رعايتهم من تلك المخطوطات لإجراء عملية الإحراق العلنية. وعلى الرغم من اعتبار رجال الدين المستسلمين لتلك الإجراءات خونةً ومنشقينَ عن الإيمان المسيحيّ، فلم يكن عددهم قليلاً مطلقاً. وكانت النتيجة أن المخطوطات الخاصة بالعهد الجديد كانت نادرة بشكل معمم في كل الامبراطورية وهذا الوضع أصبح أكثر خطورة وحدّةً عند انتهاء فترة الاضطهاد. في الوقت الذي استطاعت المسيحية العودة من جديد إلى النشاطات التبشيرية بشكل أكثر حرية، ترافق ذلك مع نمو عظيم في حجم وتواجد الكنائس مع بناء كنائس جديدة.
وتلى ذلك احتياج مفاجئ في تلك الفترة وهو المطالبة بأعداد ضخمة من مخطوطات العهد الجديد في كل مقاطعات الامبراطورية. قد ساهمت النسخ المصنوعة بشكل خصوصي في تلبية تلك المطالب بشكل كبير، لكنها لم تكن لتواكب تلك الحاجة المتنامية. والتي لا تُوفَّى إلا بتأمين دور نسخٍ كبيرة. ولم يعد ممنوعاً على الأساقفة فتح دورهم النّسخية scriptoria الخاصة: وكلّ نصّ استٌخدم كنموذجٍ في مثل هذه المراكز المنتِجة للنّسخ تم نشره بشكل واسع وحاز على أثرٍ مهيمن. خرّجت المدارس التفسيرية في أنطاكية العديد من التلاميذ، حيث حافظ تلاميذ أوريجانوس Origen والآريوسيين Arians على مراكز نسخية منظمة بشكل جيد، خرَّجت الأساقفة للعديد من الإبراشيات في كل المشرق (بمساعدة أسقف المحكمة، يوسابيوس النيقوميدي Eusebius of Nicomedia، حيث ههنا مرة أخرى كانت لمعرفة تاريخ الكنيسة أهمية كبرى في فهم تاريخ النص). أخذ كل واحد من هؤلاء الأساقفة معه إلى الإبراشية التي أوكلت إليه ذلك النّص الذي كان متآلفاً معه، وهو نص لوسيان Lucian، (النص الشائع KOINE)، وبهذه الطريقة انتشر هذا النص بسرعة وبشكل واسع حتى في القرن الرابع الميلادي. أثاناسيوس Athanasius، أسقف الاسكندرية البارز، والذي تجاوزت سلطاته حدود مصر منذ فترة باكرة ترجع إلى 328م، حكم كنيسته وفق بنية إدارية مركزية محكمة. إننا لا نعلم على وجه الدقة أيّ مخطوطة كان قد اختارها لتكون نموذج الأصل السابق، لكننا نعتقد أنها لا بد أن تكون من النوع المتمثل في المخطوطة الفاتيكانية Codex Vaticanus أو البردية P75.
إنّ كل خطأٍ في السلف السابق للمخطوطة، سواء كان خطأ حقيقياً أم مفترضاً، كان يجب أن يتم تصحيحه في الحالات الطبيعية. ارتباط اسم هيزيكيس Hesychius بنوع النص المفضل في الإسكندرية يعني أنه قد أتمه قبل انتهاء الاضطهاد (فالتقليد الكنسي يصرح أن كلاً من هيزيكيوس Hesychius ولوسيان Lucian قد ماتا كشهيدين في اضطهاد ديقلديانوس Diocletianic).
قام جيروم Jerome أبو الكنيسة، وهو من قام ليس فقط بتحرير الفولجاتا Vulgate بل اهتم بنّص الكتاب المقدس في نواح أخرى أيضاً، وقام في نهاية القرن الرابع الميلادي بتوجيه الأنظار فيما يتعلق بالعهد القديم اليوناني Greek Old Testament والذي استخدمه في الإسكندرية ومصر هيزيكيس Hesychius المعروف كمحرر لنص الترجمة السبعينية Septuagint، بينما “في القسطنطينية/إسطنبول وصولاً إلى أنطاكية فتعتبر النسخ المُعدّة من قبل الشهيد لوسيان Lucian، موثوقة وذات سلطة؛
أما في المقاطعات بين مصر وآسيا الصغرى فقرأت المخطوطات الفلسطينية Palestinian التي أعدّها أوريجانوس Origen والتي روّج لها بشكل واسع يوسابيوس Eusebius وبامفيلوس Pamphilus”. من هنا ذكر جيروم Jerome ثلاثة أنواع نصّية رئيسة خاصة بالعهد القديم اليونانيّ، ويعتبر ما أدلى به جيروم تأكيداً على نشوء الأنواع النّصّة بالطريقة التي ذكرناها سابقاً، وليس كما تخيل آباؤنا الأوائل حول طريقة نشأتها، إذ أن هذه الأنواع عاشت بسبب كونها تمثل النصوص المتداولة ضمن دور النسخ Scriptoria الكبرى (في الإسكندرية، وقيصيرية، والأسقفيات الممتدة من أنطاكية حتى القسطنطينية أي المدرسة الأنطاكية)، وبالتالي تم تداول هذه النصوص بشكل شبه حصري ولم يتداول غيرها إلا نادراً. من المثير للاهتمام أن جيروم Jerome لم يذكر الأنواع النصية الخاصة بهزيكيس Hesychius، ولوسيان Lucian، وأوريجانوس Origen (ويوسابيوس Eusebius وبامفيلوس Pamphilus) ضمن رسالة تكريسه إلى دمشق كمقدمة قبل الأناجيل، بل فقط ذكر أنواع النّصّ الخاصة بلوسيان Lucian وهيزيكيس Hesychius، ولم ينسب لهما إلا قليلاً من الثناء.
تشهد هذه التقارير في كل الحالات بوجود نوعين نصّيين: النص السكندري (الهيزيكي Hesychius) والنص الكينيّ الشائع Koine، الذي سميّ لاحقاً بالنص البيزنطيّ (لوسيانيّ Lucian). وعندما ذهب علم النقد النّصّي للعهد الجديد للحديث أبعد من هذين النوعين تحدث عن النص القيصري Caesarean والنص المقدسيّ Jerusalem كأنواع نصيّة يجب الاعتراف بها نظرياً. تعتبر مدينة القيصرية التي يعود لها يوسابيوس القيصري Eusebius بلا شك مركزاً مهماً لإنتاج المخطوطات – ومن الجدير بالذكر أن الامبراطور قسطنطين Constantine قد حوّل القيصرية لمركز مهم للمخطوطات تزود بها الكنائس المبنية حديثاً عند تأسيس عاصمته الجديدة القسطنطينية أو إسطنبول اليوم. لكننا هاهنا نصرّ على أن وجود نوع خاص بنص العهد الجديد القيصري المزعوم يعتبر فرضية بشكل كامل. ويبدو لنا أن جيروم Jerome يدّعي أن النص القيصري قدم نصاً محلياً مميزاً خاصاً بالعهد القديم اليونانيّ فقط (بناء على نتائج لدراسات أجراها أوريجانوس Origen). ولو تطور نوع نصي مميز خاص بالعهد الجديد كذلك الأمر في القيصرية (سواءً بواسطة أوريجانوس Origen أو بواسطة يوسابيوس Eusebius) فإنه لا بد أن يتم التعرف إليه وتحديده في كتابات أحد هؤلاء الآباء، أو من الأفضل أن يظهر في كتاباتهما كليهما. لكن الأبحاث لم تستطع حتى الآن إثبات أي تحديد من هذا القبيل. وبالتالي فإن كل المطالبات بخلق نوع قيصري ومهما بدت واثقة، فإن عليها أن تخضع للتحقيق النقدي.
نستطيع استنتاج نفس النتائج حول انوع النصي المقدسي. إذ أن نظريات فون سودن Von Soden تنتمي بالكليّة إلى عالم النزوات والخيال. فبعد الأيام الأولى للكنيسة لم تستطع كنيسة القدس اكتساب أي دور رياديّ حتى القرن الرابع – ولو لم يتجاهل علماء النقد النصي تاريخ الكنيسة بشكل كامل لكانوا علموا بحقيقة ما جرى للكنيسة في القدس. بعد دمار القدس التالي للحرب اليهودية، وبعد تمرد بار كوخبا Bar Kokhba عام 132-135م كان لا بد للكنيسة المسيحية من البدء من الصفر مجدداً وبالكامل. في القرن الثالث الميلادي، كانت القيصرية لا تزال المركز الثقافي والإكريليكيّ للمنطقة. فلم يكن مستغرباً من أوريجانوس Origen أن يتجه إليها عام 231م ويستقر في رحابها ويبني مدرسته اللاهوتية، بدلاً من التوجه إلى القدس، والتي ما لبثت أن بدأت تنشر تأثيرها عبر منطقة المشرق. بدأت القدس في النصف الثاني من القرن الثالث بجذب الحجاج إلى معالمها المقدسة، وحينها بدأ عهد قسطنطين وعادت القدس لتكون مركزاً ثقافياً و دينياً – استمرت على هذا الحال حتى دمارها الأخيرعام 614م في الغزو الفارسيّ.
استطاعت الامبراطورية البيزنطية أن تدحر الفرس عام 627م، لكن بعد الفتح العربي لفلسطين عام 638م أصبحت أورشليم ضمن المقاطعات العربية، مما أقصى كل تأثير قد تنتجه كلتا المدينتين، القدس أو القيصرية، على العهد الجديد اليوناني داخل الكنيسة. نستطيع القول أن المرحلة الوحيدة التي امتلكت فيها مدينة القدس/أورشليم دوراً مؤثراً على تطوّر نص العهد الجديد اليوناني امتدت من القرن الرابع حتى السادس الميلادي. طالما أننا اكتشفنا إشارات لذلك التأثير، فإن هذا النص يحتاج لدراسة أعمق من تلك التي قد حازها حتى الآن.
لا ريب أن آسيا الصغرى واليونان، مهدا المسيحية الأولى، قد حازتا على دور فعال إن لم نقل الدور الأهم في تطوير نص العهد الجديد اليونانيّ، لكنه من المستحيل لنا أن نستعرض ذلك الأثر بسبب المناخ الجوي السيء الذي لم يسمح بالحفاظ على أيّة بردية سليمة، تعود للحقبة المبكرة من تاريخ الكنيسة في تلك المنطقة.
.10 ملخص
إننا بإشارتنا الملحّة على أشياء قد لا تكون مألوفة لدارسي العهد الجديد اليونانيّ المبتدئين، نكون قد سابقنا أنفسنا لاستنتاجات ليست في محلها المناسب ها هنا. إذ أنه من الأهمية بمكان الإبقاء على الحقائق الأساسية والتركيز عليها في سير عمليتنا التدريسية. وبالنسبة للمبتدئ إن شعر بالتعقيد، فلا يلزمه إلا أن يضع في حسبانه أن النّصّ السّكندري، والنّصّ الشائع البيزنطي، ونصّ المخطوطة D هي النصوص الوحيدة المحقق في صحتها بلا شك. كل ما عدا هذا يقع في خانة التوقعات، خصوصاً عند التكلم عن أنواع النصوص الأخرى التي يطلق عليها تسميات عديدة كالغربي، والقيصري، والمقدسيّ، فهي جميعها تعتبر حتى الآن في نطاق النظريات غير الثابتة، لأنها تعتمد على أسسٍ مشكوك فيها وغالباً ما تكون مبنية بالكامل على وهم السراب. نحتاج إلى أن نكون حذرين جداً عند تقييم أي مجموعة نصية مفترضة مسبوقة بلفظة “قبل pre-” (مثل النص ما قبل القيصري pre-Caesarean). أما النص “الغربي Western” فيحتمل أنه نشأ في أي مكان إلا في الغرب. دوره الفعلي في التقليد المخطوطي للعهد الجديد ضئيل، وهذا خلاف ما ناله من اهتمام كبير في الأدب النقدي المعاصر. ما ذكرناه آنفاً في فقرة الملخص يعتبر كافياً حتى الآن بالنسبة للمبتدئين: إذ أن الدلائل الداعمة لكل نوع نصي سيتم ذكرها بشكل كافٍ لاحقاً. وبالنسبة للتلاميذ الدارسين للنقد النصي والمهتمين فقط بالخطوط العريضة للموضوع دون الدخول بالتفاصيل المذكورة سابقاً في هذا السياق من الكتاب، فسنلخص لكم مراجعة لكل ما سبق مع منظور جديد.
- إن أراد دارس النقد النصي الحصول على نتائج سليمة فلا بد أن يأخذ في عين الاعتبار الآثار التي تم الحصول عليها من دراسات تاريخ قانون النص وتاريخ الكنيسة المبكر ويبقيها حاضرة في ذهنه دائماً.
- يعتبر النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي فترة ذات أهمية خاصة، حيث تم خلالها جمع الأناجيل، التي كان الناس يتداولونها كمستندات منفردة، ضمن مخطوطات للأناجيل الأربعة سوياً لأول مرة، وكذلك تمّ استكمال جميع أعمال بولس Pauline corpus، التي بدأ العمل بها في القرن الميلادي الأول، بعد إضافة الرسائل الرعوية Pastoral letters لها. وكان سفر العبرانيين لم يزل مرفوضاً كقسم من كتابات بولس من قبل الكنيسة الغربية (أو على الأقل في جزء معتبر منها)، بينما استمرت الكنيسة الشرقية بضمّ هذا السفر لأعمال بولس كما في السابق.
ولا شك أنه قد تم تجميع مخطوطات الأناجيل الأربعة (التي ضمّت أحياناً سفر أعمال الرسل، راجع بردية (P45في هذا الوقت بالاعتماد على المخطوطات المنفردة للأناجيل (غالب الظن أن هذه المخطوطات تم تجميعها من نصوص ذات شخصيات مختلفة). ولا بد أن العملية كانت متشابهة بالنسبة لكتابات بولس، وكذلك بالنسبة للرسائل الكاثوليكية التي لم تكتمل حتى القرن الرابع الميلادي. وبالنظر للطرائق المتنوعة في تجميع المخطوطات في أوقات مختلفة ومن أماكن متعددة، سيكون من المتوقع أن التضارب سيكون الاحتمال الأكبر في شخصية النص المكون للعهد الجديد، وحتى النص المكون لرسالة ما عن رسالة أخرى. ونرى ذلك جلياً في الرسائل التي تم القبول بالاعتراف بها لاحقاً (رسالة بطرس الثانية، و رسائل يوحنا الثانية و الثالثة، و يهوذا و أيضاً يعقوب): التقليد النصي الخاص برسالة يهوذا يعتبر مثالاً واضحاً.
- يعتبر العام 200م نقطة تحول بارزة. فبجانب تقليد المخطوطات اليونانية للعهد الجديد، دخلت المخطوطات اللاتينية إلى اللعبة في أرجاء الغرب، والمخطوطات القبطية في مصر، والمخطوطات السريانية في سوريا (أي، المنطقة الناطقة بالسريانية حصراً حول الرها، والمقاطعة الرومانية تأتي في الترتيب الثاني في البداية). وكان الشعب المسيحي البسيط ممن يعلمون اللغة اليونانية غير كافٍ وبالتالي انتشرت الترجمات باللغات المحلية كضرورة حتمية. وتحولت الكنيسة في الغرب إلى كنيسة لاتينية بحلول عام 250م .
- وبحلول هذا التاريخ على أبعد تقدير لم يعد للغرب أي دور في تكوين تاريخ النص اليوناني للعهد الجديد. لا شك أن جيوباً عديدة والتي استمرت في النمو والمحافظة على نصوصها اليونانية أيضا حتى العصور الوسطى، مثل إيطاليا (راجع مجموعة المخطوطات f1 وf13 التي تطورت جنوب إيطاليا). أما التقليد الأساسي للنص اليوناني للعهد الجديد فقد تمت المحافظة عليه في الشرق، ولعبت في هذا مصر دوراً تكامليا لا ينفصل عن باقي الشرق. وبالرغم من أن اللغة القبطية كانت لغة الرهبانية في الأديرة المصرية منذ القدم في القرن الثالث /الرابع، إلا أن الكنيسة حافظت على اللغة اليونانية بشكل أساسيّ حتى القرن الخامس وبعده بقليل (وحتى الوقت الحاضر، في دير القديسة كاترين في جبل سيناء).
- انصب تركيز الكنيسة في القرون الأولى على الشرق، بجعل آسيا الصغرى والمناطق المجاورة لها كمراكز رئيسية. أما الكنائس في الغرب فكانت أقل عدداً وقوة. انصبغت نظرتنا لدور الكنيسة الغربية في المرحلة المبكرة بشكل خادع بسبب التطورات الحادثة في القرون المتأخرة. فجميع اللاهوتيين المشاهير في الغرب خلال القرنين الميلاديين الأولين كانوا بالأساس مشرقيين (ماركيون Marcion ومجموعة الدفاعيين وصولاً إلى إيرناوس Irenaeus وهيبوليتوس Hippolytus ). أما أول الآباء المشاهير في الغرب فكان نوفاتيان Novatian حوالي عام 250م وهو من الغرب، لكن حاله لم يكن أفضل من حال هيبوليتوس Hippolytus الذي جاء بعده بقليل والذي لم يكن موضع ترحيب هو الآخر في روما حيث الكنيسة هنالك أولت اللاهوت اهتماماً قليلاً واهتمت بالطقوس الكنسية، وهذا يلخص إنجازات روما خلال تلك الفترة المبكرة. أما من الناحية العملية فقد تم بناء روما بشكل متين، فهي من صاغ العقيدة، وعرّفت قانون العهد الجديد، وطورت مكتب الأسقفية – لكن حتى نكون منصفين، روما لم تبدِ أي مشعرات لاهتمامات علمية. فلو وجدنا أي أثر لأي لاهوتي في الغرب في المرحلة المبكرة من تاريخ الكنيسة، فلا بد أنه قد حصل عليها من خلفيات كنسية شرقية، فهؤلاء اللاهوتيون قد جلبوا معهم نصوصهم الخاصة بالعهد الجديد.
- ونتيجة لذلك، فإنه من غير المحتمل أن تكون نظرية نشوء نوع نصي “غربي” خاص صحيحة منذ البداية، وحتى أكثر مناصري هذا النص شغفاً لا يشيرون إلى هذا النص إلا بعد كتابته ضمن إشارتي اقتباس، هكذا “غربي” .
فلا توجد شخصية مهمة يمكن الاعتراف بها في أي زمان أو مكان في تاريخ الكنيسة الغربية المبكر نستطيع القول عنها أنها قادرة على تحقيق إنجازات لاهوتية فردية تمثلت في نصوص الأناجيل والأعمال في المخطوطات أسلاف المخطوطة بيزا (D). لقد حظيت الكنيسة الغربية في المراحل المبكرة بنص محلي على الغالب، لكن اختلافات هذا النص عن النص “العادي” كانت بنفس فداحة باقي الاختلافات عن أنواعٍ نصية أخرى. لكن النص الموجود في مخطوطة بيزا D العائدة للقرن الخامس، يمثل (من خلال نص نموذجه) إنجازات لاهوتي مبكر بارز يرجع للقرن الثالث/ الرابع الميلادي. جذب هذا النص في وقته القليل من الأتباع، إلا أن الذي استطاع القرن التاسع عشر/ العشرين أن يعمل منه يعتبر مذهلاً.
- كان نص العهد الجديد يتطور بشكل حر حتى بدايات القرن الرابع الميلادي. فقد كان “نصاً حياً” كتقليد يوناني أدبي، بعكس النص اليوناني للعهد القديم، الذي كان يخضع لسيطرة صارمة بسبب اعتبار النص الصحيح (حسب التقليد المشرقي) نصاً مقدساً. واستمر نص العهد الجديد في كونه “نصا حياً” طالما بقي تقليداً مخطوطيا، وحتى بعد صياغة الكنيسة البيزنطية لهذا النص بالإجبار ضمن كيان متجانس من النصوص القياسية و الرسمية. وينطبق ذلك حتى عند المؤلفين المتأخرين، فمثلاً، فقرات الأناجيل الإزائية تعتبر متجانسة للدرجة التي تدفعنا للقول بأن النساخ قاموا بتكييف النص الموجود في إنجيل مع الموجود في الإنجيل الآخر. كما أن هؤلاء النساخ شعروا بالحرية التامة لعمل تصحيحات في النص، بحيث قاموا بتحسينه بمعايير الصحة الخاصة بهم سواء كان ذاك التصحيح نحويا، أو أسلوبياً، أو حتى تصحيحات أكثر جوهرية. هذا الأمر صحيح في الفترة المبكرة، عندما لم يكن قد بلغ النص وضعيته القانونية، خصوصاً في المرحلة الأبكر التي اعتبر فيها المسيحيون أنفسهم مملوئين بالروح القدس. وبالتالي فإن النص الخاص بالحقبة القديمة متعدد الأوجه حيث تمتلك كل مخطوطة خواصها الغريبة. نلاحظ ذلك في البرديات P45، P46، P66، وهكذا. الحقيقة أن تلك التصرفات لم تكن معيارية كما يظهر من البردية P75 التي تمثل نصاً صارماً، ومثلها البردية P52 في الفترة حوالي 125م التي تمثل نصاً طبيعيا. فقد حافظت على النص كما في أصلها السابق بطريقة أمينة نسبياً (وليست الوحيدة ممن نقل النص هكذا، راجع صفحة 59).
- قراءات الاختلافات في نص العهد الجديد التي ليست نتيجة لأخطاء بسيطة من النساخ (أو بسبب الالتباس عند سماع الأصوات المتقاربة أثناء الإملاء في مركز النسخ) ربما تفسر بسبب طبيعته كـ “نص حي”. صحيح أن النساخ ابتدؤوا منذ القرن الثالث الميلادي على الأقل بمحاولة النسخ من الأصل السابق بأمانة في كراساتهم، لكنهم أيضاً قاموا باتباع ما فهموه من معانٍ عند النسخ (لنصوص تعاملوا معها طبقا لما في قلوبهم)، وهذا ما أنشأ الاختلافات في القراءات. وما وازن الكفة هنا هو خاصية يتصف بها نص العهد الجديد وهي صفة التماسك، أي المقاومة المعاندة لقراءة أو نوع نصي ما ضد التغيير. فعلى سبيل المثال، استمرت محاولات استنتاج نهاية إنجيل مرقس عند 16 : 8 وشوهدت تلك المحاولات في عدة مخطوطات يونانية وكذلك في عدة مخطوطات لترجمات متعددة ولقرون عديدة، على الرغم من أنه في النهاية تم اعتماد “النهاية الطويلة” من مرقس 16 : 9 – 20 والاعتراف بها بكونها قانونية فمحتويات هذه النهاية تجعل منها الخاتمة الأكثر جذباً. يوجد العديد والعديد من الأمثلة على مثل هذا (نهاية الرسالة إلى أهل رومية، وقصة المرأة الزانية، الى آخره، راجع صفحة 297 وما يليها). في الحقيقة، لا نستطيع تفسير تعدد أنواع نصوص العهد الجديد إلا بصفة التماسك التي تتحلى بها التقاليد النصية للعهد الجديد.
ما يقرب من 10% إلى 20% من المخطوطات اليونانية هي التي حفظت بأمانة الأنواع النصية المختلفة لأسلافها المتنوعة، وتنطبق هذه الحالة حتى في الفترة المتأخرة وهي فترة الهيمنة التامة للنص البيزنطي المنتشر. وهذا ما يجعل تتبع أصول نص العهد الجديد ممكناً من خلال مدى واسع من الشهودٍ.
- بدأ تداول كل كتابات العهد الجديد في أماكن بدء كتابتها – ما عدا الرسائل الأصلية (اذ بدأ تداولها من أماكن تأليفها السابقة). وبانتشار عادة النسخ تضاعف الانتشار بشكل مطّرد على نطاقات واسعة، وكأنك رميت مجموعة من الحصى في بركة ماء ساكنة فتنامت التموجات الناتجة عنها لأضعاف. ومن هنا نفهم أن كل نص يحتاج لفترة زمنية معينة من وقت كتابة المستند النصي حتى استخدامه في جميع الكنائس التابعة لإبراشية مفردة أو ليتم تداولها في كل الكنيسة المسيحية . وبهذه الواسطة استطاعت كل نسخة ان تنتسخ من نسخةٍ قبلها وتنتشر بنفس المنهج التوسعي، كأنها مجموعة حصىً جديدة رميت جانب أخر من نفس البركة وعملت لنفسها حلقات ارتدادية أخرى. وبالتالي قد تتقاطع دوائر كل سلسلة من التموجات مع بعضهما البعض. قد تتبادل مخطوطتان (كل واحدة تتحلى بخواص مميزة ترجع إلى مكان نشأة نصها الاصلي) تواجدتا في نفس المكان التأثر كل واحدة بالأخرى، وبالتالي يخلق عندنا مزيج نصي يبتدئ هو الآخر نموذجاً جديداً لسلسلة من دوائر التموجات المائية الخاصة – وهذه العملية المجملة سوف تتكرر كلها من بدايتها لنهايتها مرة بعد مرة. وفي النهاية، ولنفهم كناية ما تعنيه التموجات الناتجة عن الحصى في البركة، ستمتلئ البركة بعد فترة معينة بعددٍ هائلٍ من الدوائر الموجية التي ستتداخل في النهاية بعضها فوق البعض الآخر، وستصل إلى حد التخمة مما يمنعنا من التمييز بين مصادر كل سلسلة موجات عن أخرى وكم مدى العلاقات المشتركة بينها. في نهاية المطاف سنرى أن هذا الوضع المتداخل هو الوضع الذي وجده علماء النقد النصي عند محاولتهم لتحليل تاريخ نص العهد النصي.
- لا بد من أن كل المخطوطات قد تم نسخها بشكل خصوصي لكل مخطوطة على حدة بواسطة أشخاص مختلفين في الفترة المبكرة. إذ أن تلك الحقبة كانت من المستحيل أن تسمح بتواجد مراكز نسخيّة احترافيّة scriptorium يشغلّها نسّاخ محترفون لإنتاج المخطوطات (حيث يتم إنتاج عدد هائل من المخطوطات في وقت واحد معاً، يتم املاؤها من أصل سابق مشترك)، وخصوصاً أن تلك الفترات امتازت بتهديد او معاناة المسيحيين من الاضطهاد. ومن المؤكد أنه بالإضافة للنّسّاخ ضمن دور النّسخ المعتمدة، تواجد مسيحيون كثر قاموا بصنع نسخهم الخاصة من النصوص المقدسة في منازلهم. يعتقد أن عمر أقدم دور النسخ تلك يعود إلى حوالي العام 200م في الاسكندرية، لكنها قامت بتقديم خدماتها للكنيسة في مصر فقط. كان هذا هو الحال إلى حينها في الاسكندرية أما المناطق الأخرى فلم تمتلك ميزة بناء هذه الدور النّسخية حتى وقت أبعد من ذلك (بما فيها المناطق النائية في مصر)، ولو أردنا الحقيقة فيتوجب علينا القول بأنه لم تتم عملية إنتاج المخطوطات حتى بداية القرن الرابع الميلادي إلا على نطاق محدود، وذلك بصنع نسخةٍ واحدةٍ للمخطوطة في كل مرة. وبعدها يمكن نسخ كل نسخة من تلك النسخ ولكن بشكل منفرد، ولهذا نستطيع أن نفهم لماذا لم تكن عائلات المخطوطات بالغة الكبر على الإطلاق.
- ترك الاضطهاد الديقلدياني Diocletian ندبة عميقة في تاريخ الكنيسة وبطبيعة الحال في تاريخ نص العهد الجديد كذلك. إذ تم إتلاف ما لا يعد ولا يحصى من المخطوطات في تلك الفترة وتوجب استبدالها جميعاً. وكان لا بد من تأمين المزيد من المخطوطات لتزويد الكنائس الجديدة التي نشأت في عهد قسطنطين Constantine. كل تلك العوامل اجتمعت لتأسّس للظروف الضرورية من أجل إنشاء دور نسخٍ كنسيةٍ في كلّ مراكز الإبراشيات، أو على الأقل في جميع المقاطعات التابعة للكنيسة. أصبح للشّكل النّصيّ المشاهد في النّص أو في المخطوطة المعنية الممثّلة للأصل السابق (النموذج) أو معظم ما أنتجته دور النسخ، دورا مؤثرا حينها بلا شك. وعلى هذا الغرار تم تطوير النص المعروف بالنص السكندري في مصر، حيث تم تداول أكثر النصوص اختلافاُ وعدداً على الإطلاق، هذا النص السكندري تطور لخطوة أخرى (تحت تأثير النص الكيني الشائع) وتحوّل عبر القرون إلى النص المصري.
وفي مناطق أخرى من الامبراطورية نجد سيطرة النص الشائع الكيني (الذي سمي لاحقاً بالنص البيزنطيّ الامبراطوريّ) الذي انتشر بسرعة كبيرة إذ قام التلاميذ في المدرسة التفسيرية في أنطاكية، الذي احتلوا العديد من التصورات المهمة في ذلك الزمن، إما بتبني النص الأنطاكي في دور النسخ المؤسسة حديثاً في الأبراشية، أو استخدام هذا النص لاستبدال الأصل السابق القياسي الأقدم في أماكن تواجدت فيها مراكز نسخ مسبقاً. ونستطيع أن نتفهم تماماً تلك الحقيقة القائلة بتماسك التقليد النصي للخاص بالعهد الجديد، فهي تلزمنا بقبول حقيقة أخرى وهي استمرار الاحتفاظ بأي نصّ محليّ وليد منطقته إلى جانب النّصّ المعتمد من قبل المركز الكنسي الرئيسي. فكل قراءة تمثل نوعاً مختلفاً من النص وصادف أن تمارسها مجموعة معينة من الكنائس، فسوف تستمر بالحفظ والترجمة، على الرغم من أن تلك النصوص المغايرة لا تنسخ إلا فرادى وبشكل أقل تكراراً. ولأجل الحكم على النص الناتج في الاسكندرية أو انطاكية في نهاية القرن الثالث الميلادي أو بداية الرابع لا بد من أخذ قرار في الاعتراف بكل شكل أصليّ من النص وإعادة تمحيص ذلك النص فقرة بعد فقرة من جديد، ومن غير المقنع اليوم أن هذا قد حصل حينذاك. وخصوصاً بالنسبة للنص الأنطاكي.